الثلاثاء، 4 فبراير 2014

آيات الأخرس في عرسها الأخير


تلم شعرها في كعكة، تعقده جيداً بشريطة حمراء لامعة كي تزهو؛ يجب أن تراها عائلتها في أجمل حلة كما ودَّعتهم قبل اثني عشر عاماً حينما لفت زناراً من المتفجرات حول خصرها وقدَّمت نفسها ثأراً لكل أمنية فرّت للجنَّة.

تدربت آيات طوال الأعوام الفائتة على الهيئة التي يجب أن تلقى فيها أهلها: " ستكون هناك أوراق تقليدية يجب أن يفرغوا منها في البداية. عليَّ أن لا أفكر بالأمر كي لا أغبّر فرحتي. سينفضون الأتربة التي غطّت الرقم الذي حَمَله قبري. سيحملونني في نعش خشبي إلى أقرب نقطة في فلسطين ثم ينقلونني إلى بيت جالا. أحفظ الطريق الممتد كيَدِ حالم يَمُطّ يده في حلم واعٍ؛ لم أكن ميتة بعد حينما أَسَروني في غور الأردن وختموني برقم مكّون من ثلاث خانات، بل أبصرت كل شيء بعينين واسعتين.

لم أعرف من جاورني في مقبرة الأرقام، لكنني أسمع الكثير من الهمس مساءً. غنّى أحدهم البارحة للوطن، شيءٌ ما صدح مثل طنبور وأخذ صوته يرن عالياً في أذني، لم أسمع بهذه الأغنية من قبل، من الواضح أنها وُلدت في حنجرة ذهبية من بعدي. حاولت ولأيَّام طويلة أن أفتح معهُ حواراً سياسياً متخيلاً؛ أعني أن نثرثر كصديقين ونأوِّل ما يجري على أرض الواقع، فلا عصافير في المقبرة تحمل لنا الأخبار، والثقب الذي أحدثته في القبر كي أتلصص على أخبار السماء طمرهُ أحد الحراس. كل ما كان لدينا في هذا الفضاء الشاسع لا يتجاوز الحر الشديد والشوك اليابس الذي رشقته فرشاة رسام مغمور على لوحة بشعة. لم يُبد الشهيد الذي في جواري أي تجاوب معي لكنَّه ما انفك يُغني لحيفا طيلة السنوات الماضية.

في الدقيقة التي يصل فيها نعشي إلى أول ذرة تراب من الوطن عليّ أن أتماسك جيداً، سأقبض على دمعي وأسحقه. أنا لا أبكي في حب الوطن. قد أطلق زغرودة بجناحين تحمل قُبلة لخديّ أمي وشادي؛ واحدة من تلك اللواتي خبأتهن لحين زفافي من شادي الذي حاولتُ أن أفصح لهُ أنني سأنتظره على باب الجنّة كي أضمه لقلبي. شيء ما منعني من إخباره برحيلي رغم أننا عقدنا خنصرينا وعداً كي ننجب درزينة أولاد سُمر بشوارب ثخينة ولحى مرتبة، يتلثمون بالكوفية ويلبسون أحزمة من المتفجرات لإبادة الدولة العبرية.

ستمد والدتي يدها إلى النعش، ستحاول نبشي، إخراجي إلى الحياة من جديد، ستزرع ياسيمينة في كفي وتنمو كي تصل حدّ السماء وتورق بالحرية. كم كنتِ قويةً حينما حاورت أم راشيل، كاد قلبي أن ينفطر حزناً و وددت لو قُدر لي لخرجت من قوقعتي هذه وطبعتُ قبلاتٍ طويلة على قدميكِ. كُنت أراكِ من الثقب الذي أحدثتُه كيف صرختِ بكل قوة وظّلت دمعتكِ واقفة في مقلتك لا تميل أو تنكسر.

سيكون والدي بالقرب، سيتحسس يدي الباردتين، لن أنظر في وجهه حتّى لا تنفرط الدمعة التي ترقرقت في مقلتيه؛ أخجل من دمعك يا والدي. سيلقي إخوتي وسمر، رفيقة وعدي، النظرة الأخيرة علي. ستدس سمر في قلبي أغنية عن الحرية، ستُدرك ابتسامتي ويزهر النور في صدرها.


يبرز جناحاي خلف ظهري، أعدل هندامي، أتلو النشيد الوطني، صوت أمي يجيء من البعيد ... إنه الوطن! "

ثناء
Koofiia@gmail.com

هناك 4 تعليقات:

Unknown يقول...

اجمل عروس تزف للوطن الله يغفر لها ولنا الله يرحمها و يرحمنا

غير معرف يقول...

الله يرحمها ..كانت عباراتك مؤثره

منال

غير معرف يقول...

اسلوب جميل وسلس..الله يرحمها ويقوي اهلها

ثناء Kofiia يقول...

مريم، منال، وغير معرف

شكراً لكم. آمين :)