الثلاثاء، 11 مارس 2014

الرقابة على الكتب: نعيش في عصور أوروبا المظلمة


اتسعت الرقابة على المطبوعات في أوروبا بعد اكتشاف آلة الطباعة في القرن الخامس عشر على يد المخترع الألماني غوتنبرغ والتي ساهمت في ازدهار الانتاج الورقي والكتابة. ولقد تباينت الرقابة أياً كان شكلها على مدار العصور باختلاف أحداثها لكنَّها في مجملها تمحورت حول الثالوث المحرَّم: الدين، السياسة والجنس. فخلال إحصائية قامت بها Anne Sauvy في كتابها "الكتب المضبوطة في باريس بين أعوام 1678 و 1701" ، وجدت أن معظم الكتب التي ضبطت خلال تلك الفترة تحدثت إما عن البروتستانية, الينسينية، السياسة، أو الأعمال الأدبية بشكل عام.

"بإمكانكم النقر على الصورة التي سحبتها عن كتابها لتكبيرها والحصول على تفاصيل الإحصائية."


لم يكن من السهل على كاتب يعيش في قرن معتم أن ينشر كتاباً أو يبعث بفكرة، فلقد وقفت الكنيسة بالمرصاد لوأد كل فكرة أو كتاب خالف سياستها عن طريق حرقه أو اتهام صاحبه بالهرطقة مع إصدار أحكام تعسفية بحق الكاتب كإعدامه أو طرده منها. وهذا ما حدث مع مارتن لوثر الذي نشر رسالة تضمنت قضاياه ال 95 ضد بيع الكنيسة في روما لصكوك الغفران، فحاولت الكنيسة محاججته في محاولة لرده إلى الطريق السليم مما زاده عناداً وإصراراً على موقفه فاتهمته الكنيسة بالزندقة. بينما جاليلو الذي صاغ نظرية مركزية الشمس وأن الأرض مجرد جرم سماوي يدور حولها أجبرته الكنيسة على التراجع عن نظريته وأقواله وفرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله.

غالباً ما كانت الكتب التي تمس نظام الحكم أو الكنيسة تنشر وتمرر بسرية تامة مما جعل فرنسا تقوم بتعيين جهاز شرطة رقابية مهمته مراجعة المنشورات وصك ختم عليها كمميز على مرورها بسلام من تحت مبضعهم مما سهل العملية الرقابية في القبض على الكتب الممنوعة. ومع مجيء الثورة الفرنسية (1789) أعلنت الجمعية الوطنية توافقها مع مواد حقوق الإنسان والمواطن الذي نصت مادته الحادية عشرة على :" 11. The free communication of ideas and opinions is one of the most precious of the rights of man; every citizen can then freely speak, write, and print, subject to responsibility for the abuse of this freedom in the cases is determined by law المادة 11: إن حرية نشر الأفكار والآراء حق من حقوق كل إنسان. فلكل إنسان أن يتكلم ويكتب وينشر آراءه بحرية. ولكن عليه عهدة ما يكتبه في المسائل التي ينص القانون عليها." إلا أن الرقابة على الكتب لم تتغير كثيراً، فالكنيسة عبَّرت عن غضبها إزاء الحرية المطلقة التي كانت الجمعية الوطنية قد أعطتها للكتاب وأخذ نابليون على عاتقه منع كل الكتب التي قد تؤدي إلى التأثير في الرأي الفرنسي أو الإساءة لنظامه.

لم يكن الدين أو السياسة السببين الوحيدين في حظر الكتب، بل تجاوز الأمر للكتب التي تحتوي على تصويرات فاحشة أو جنسية؛ فعام 1821 منعت رواية "فاني هيل – مذكرات امرأة متعة" لكاتبها جون كليلاند في الولايات المتحدة الأمريكية ومُنعت رواية "لوليتا" (1955) لكاتبها الفرنسي فلاديمير بانوكوف لذات السبب في عدد كبير من دول أوروبا، أمريكا ونيوزلندا. إضافة لعدد كبير من الروايات مثل "مدار السرطان" (1934)، "مدام بوفاري" (1856)، "يوليسس" (1922)، "دون غرزة" (1966) اللائي حُظرن فور نشرهن لاحتوائهن على محتويات جنسية. إلا أن فك الحظر عن هذه الكتب بدأ في مطلع ستينيات القرن الماضي في وقت على الأغلب كانت فيه الرقابة في العالم العربي تعيش عصرها المظلم.

لا تزال الدول العربية تمارس دور الوصي الذي كانت تمارسه أوروبا في أحلك عصورها جهلاً، فلا يحق لأي فرد كان أن ينشر كتاباً دون أن تتدخل فيهِ أكثر من جهة رقابية واحدة؛ ففي السعودية على سبيل المثال لا تتكفل وزارة الثقافة والإعلام وحدها بالرقابة على الكتب بل يأخذ جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على عاتقه منع الكتب التي يرى أفراده أنَّها لا يجب أن تصل للشعب. ويُعتبر قانون منع كتاب ما بحجة تهديده للأمن العام فضفاضاً جداً مما أدى بالسعودية والكويت لمنع دخول كتاب "أنا سنية وأنت شيعي" (2013) للكاتبة السعودية سارة مطر على الرغم أن الكتاب فارغ جداً ولا يحتوي إلا على سرد ليوميات طالبة سعودية في البحرين ولكن عنوانه كان كفيلاً بمنعه من دخول الأراضي السعودية أو الكويتية. ولقد مارست الكنيسة أيضاً دورها في عالمنا العربي فعام 2005 قامت كل من لبنان والأردن بمنع رواية شيفرة دافنشي لدان براون بعد أيام من بدء توزيعها في كلا البلدين وبعد أن اعتبرتها الكنيسة الكاثوليكية مسيئة في حقها. ومنعت المغرب كتاباً مثل "صديقي الملك" (2002) لجيل بيرو بعد أن ادعت الحكومة المغربية أنه يتبلى عليها في اختلاقه لقصص اعتقالات وقتل وحشية وزجها في ظهر الحكومة المغربية، وفلسطين ليست ببعيدة عمّا تزاوله الدول العربية من سحب للكتب التي لا تتفق مع أهواء لجنتها، فكتاب "قول يا طير"* والذي احتوى على قصص من التراث الفلسطيني أُمر بإتلافه لاحتوائه على ألفاظ خادشة للحياء إضافة لتشجعيه الأطفال على الغش والخداع، وهي السياسة نفسها التي كانت تمارسها أوروبا على الكتب خلال القرن التاسع عشر حينما مُنع ديوان "أزرها الشر" لبولدير لخدشه الحياء العام للمجتمع إضافة للخوف من أن يقع في أيدي المراهقين.

لا تكتفي الدول العربية بمنع الكتب أو سحبها وإنما يصل هذا الأمر إلى التطاول بتعسف على دور النشر في معارض الكتب. ففي السادس من هذا الشهر وفي دجى الليل قامت وزارة الثقافة والإعلام السعودية بإزالة جناح الشبكة العربية للأبحاث والنشر من معرض الرياض الدولي للكتاب بحجة احتوائه على كتب تغذّي الإرهاب وتفسد العقول بتهديدها لأمن الدولة.

تحاول الدول العربية أن تمارس دوراً رقابياً مسيئاً في حقنا نحن القُراء في إلزام نفسها بتحديد ما يجب علينا أن نقرأه وما لا يجب أن نقرأه مساهمة في خلق هوَّة واسعة بينها وبين شعوبها. ففي الوقت الذي لا نزال نعيش فيهِ في عصر مظلم تُمنع فيه الكتب لأن عنوانها فقط احتوى على كلمة لا تتآلف مع هوى المراقب، كانت أمريكا قد انتهت من هذه الحقبة المظلمة عام 1963.
يبدو أننا سنُعشش طويلاً في طيَّات أعوامٍ مظلمة إلى حين ثورة تُحرر الفكر العربي.

*أخرج وزير التربية والتعليم الأسبق د. ناصر الدين الشاعر فيما بعد بياناً ذكر فيه أن تعميم إتلاف الكتاب لم يخرج من مكتبه وأعيد الكتاب من جديد للمكتبات المدرسية.

ثناء

هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

من رأيي الذي أجزم بأنه لن يسأل عنه أصحاب الشأن..
تجب الرقابة على كل مايحتوي على ما "يخدش حياء" القارئ و كل ما حول "يخدش الحياء" من الفاظ وغيرها.. مع أننا في عصر الإنترنت و يمكن لأي كان الوصول لما يريده عليها.. إلا أنه من الضروري ألا تقع تلك المواد بين أيدي المراهقين كما ذكرت .. ففي رأيي .. تلك المواد لم تكن يوما سببا في رقي أي مجتمع.
لكنني لست معها أبدا في تقييد نشر الفائدة و نشر الحقائق بشكل عام، سياسية وغيرها.
وفيما يتعلق بنشر ثقافة الإرهاب.. فلا شيء ينشرها أكثر من أفلام الأكشن و الجريمة.. ففيها أفكار و تكتيكات لا تخطر على البال بسهولة:)
وللكتب التي "تحرض على الإرهاب" دور أيضا فمن الأسهل على الحكومات أن تقطع ما تعتقده سببا لانتشار الفكر الإرهابي من أن تلاحق الإرهابيين بعد تشكلهم :)
بعد التعليق الطويل :) أعتقد أنه "ماليش دعوة"