الأحد، 14 ديسمبر 2008

ضَفيرَةُ يأس ،

كانَ اليأسُ يتكوَّمُ على الطريق. كان يتجمعُ بشكلٍ أو بآخر، ثُم يأخذ يزفرُ غُباراً ويمسحُ العتمَة من على الليل. كان يظُن أن بمسحهِ للعتمَة سيصيرُ أملاً . اختارت عجُوزٌ أن تعبُر الشارعَ ليلاً، كانت تلبسُ فُستاناً أبيضَ مُنقطاً بزُهورٍ زرقاء. وتحملُ في يدها عُكازاً تتكئ عليه. كانت شمطاءَ بعيُون صغيرةٍ وشعر مُجعدٍ يُشبهُ البَحر في هيجانهِ. وفي قدميها خفان بُنيان بلون خشب البَلُوط. كانت لديهَا أحلامٌ كَبيرَة ، وأغاني فرحٍ كَثيرَة تُخبئها في قلبهَا. عبرت الشارعَ بصُعُوبَة . كانت تترنحُ في مشيتها وتقُول بتلكؤ : سأبكي كما بكيتُ يَوم تُوفي زَوجي، سأبكي لأن الليل يبكي ، سأبكي لأن السماء لمْ تُمطر مُنذ زَمنٍ طَويلٍ. كانت السيَّدَة منال ابراهيم تهذي باستمرارٍ كُلما عَبرت هذا الشارعَ وكان يجتاحُها هاجسٌ واحدٌ في تلك الدقيقة بالذَات : أن تقُوم زوجة ابنها الأصغر بإجبار ابنها على رميها في دار المُسنين وأن تفُك علاقَة الصُلح بينَها وبين الحياة. كانت تعرفُ أنَّها متى ما دخلت دار المُسنين فسيختبئ شبحُ المَوت عنْهَا وسيهربُ من رائحتها الكريهَة ولن يقترب منها إلا إذا توسلت إليهِ أن يأتي لقضم جسدهَا الهزيل.

عبرت الشارعَ وَحيدَة وكانت تترنَّحُ كَثيرا كمن نسيَ كيفَ يمشي. أكملت مشيهَا ثُم غارت في الضحك. كانت تَعلم أن الضحك يجتاحُها جرَّاءَ حالة هستيرية مجنُونة تمُر بهَا. كانت تعلَم أنها مريضَة وأن علاجَها لا يُوجد إلا في حياةٍ أخرى. أخبرتها جارتُها الثرثارَة سُعاد. أنها سمعت السكير أبو اسماعيل يقُول ذاتَ مرَّة أنَّها إذا ماتت فستمرُ على حياةٍ أخرى مفتُوحَة الأبواب. فكُل ما تُفكر به سيخر أمامك. تخيل دواءً لمرضك. سيأتي أمامكَ مُباشَرة. تخيل أن تعُود شاباً فستعُود في لمح البَصر، لذلك يجب أن تهبهَُ جسدَها ومالَها لأنها تستطيعُ أن تطلُب غيرَهُم في الحياة الأخرى. كانت مَنال تتعجبُ كثيراً ككائن غريبٍ يمُر على الحياة فجأة. وصارت هذه الخُزعبلات تتقمصُها بشكلٍ أو بآخر . ليسَ لأنَّها تُريدُ المال، فالمالُ كَثير، إلا لأنَّها تُريد أن تتعرفَ على شارعٍ آخرَ لا تبكي وتضحكَ عليهِ في نفس الوَقت . كانت تُريد علاجاً لجُنونها هذا.

جلست العجُوز على الرَّصيفِ ومالت بجسدهَا على العُكازَة. لَمْ يكُن هُنالك صَوتٌ للسيَّاراتِ. كان الهَواء وَحدهُ يصفرُ وكَان الغُبارُ يتطايرُ شيئاً فشيئاً.

شرعت العجُوز بالغناء، لا شيء أفضل من كسر الصفير بأغنية جميلَة . كانت تُغني وتملأ رئتيها بالهَواء ثُم ترفعُ صَوتها عالياً. كان اليأسُ يتكورُ شيئاُ فشيئاً على نفسهِ ويعقدُ حبَّات الأمل ببعضها البعضِ بالنجُوم كي لا تمُوت. لَمْ تكُن العملية سهلَة ففي كُل مرَّة كانت السلسلة تنكسرُ ويزفرُ اليأسُ عالياً من جَديد .

ماتزالُ العجُوز تُغني، ماتزالُ ترفعُ صَوتهَا عالياً ، تُغني للحَياة، للحُب، للمَطر، للبُكاء، للآمال العَظيمَة، لزوجهَا الذّي سرقت الحربُ رُوحَهُ. كانت تُغني وتضحكُ عالياً وتُثرثر كالمَجانين.

أخذّ اليأسُ يقتربُ منهَا شيئاً فشيئاً، وبسُرعَة كَبيرة قام بالتهامهَا . لَمعت شرارةٌ وأُصدِرت فرقَعة بصوتٍ عالٍ؛ كانَ الصباحُ قد انبلج !

هناك تعليقان (2):

عَوسَجْ يقول...

هو اليأس حليف البؤساء دوماً

ولكن سنمضي نبحث عن أمل - كاذب ، لا أثق به - حتى نهاية الاسطورة !


..

كوفية ،،

درع من رصاصات الموت لنا في الشارع

وهنا حروفك درع من رصاصات الحياة !

..

قطع حلوى ونثار غيم ،،

الحلوى لا تقاوم ، وظل الغيم رائع

تسجيل وجود دائم هنا


:)
..

ثناء Kofiia يقول...

كيفَ هي الرصاصات يا عيون ؟
كيف هي غزة اليَوم ؟

النصر قادم بإذن الله يا عيون .

ممتنة لوجودك كثيراً هُنا. وأنا فعلاً سعيدة ^^