الجمعة، 19 سبتمبر 2008

عائد إلى حيفا - غسَّان كنفاني



إنها حيفا، حيفا البعيدة التي لا تُريد أن تنسانا ، حيفا الهاربَة من عُيوننا بعدَما سُجنت. حيفا البنت اللطيفَة التي تركت شوارعَها ومفارقَها وبيوتَها مثلما هيَ. إنَّها حيفَا يا غسَّان . الرواية المُؤلمَة، المليئة بالغصَّات. التي تحملُ وابلاً منَ الوَجع ورسالة مفضوضة بالآثام. بكيتُ كَثيراً عندَما قرأت هذه الرواية. بكيتُ لأنك يا حيفا أخفتني كَثيراً، لأن الحانات اليَوم فيكِ كَثيرَةٌ ولأنني ارتطمتُ بخمَّارة يَوماً وكدتُ أضيعُ في الحديقَة يا حيفا.
كُنا نسبحُ في البَحر في الأبيض المُتوسط. وبعدَ ذلك انتقلنا للحَديقَة المُجاورَة. تُعتبر هذه الحَديقَة من أشهر حدائق حيفا. حيث يأتيها زُوار كُثر وتُقام بها تصويراتُ لعدد من الأعراس. كانت العرُوس اليهودية برفقة زوجها يتصوَّران. وكُنا أنا وصديقاتي نلحقُهُما ، نُريد أن نرى العَرُوس والعريس ، وفجأة اختفينَا عن الجَماعَة. وأخبرتُهم بأنني سأذهبُ للجماعَة فأخاف أن نضيعَ وطمأنتُهم بأنني أحفظُ الطريق جيداً. فكيف أنساكِ يا حيفا ؟ خرجتُ من الحَديقَة من أحدِ الأبواب حتى اميل بالطريق بعد ذلك وأدخل من الباب الأمامي جيثُ الجَميع يجلسُ. خرجتُ ومشيتُ واصطدمتُ بخمَّارَة في طريقي. لا أتذكر أنَّنا رأيناهاَ عندَما دخَلنا. كانَ المنظرُ مُقززاً. العَديد من الرجال في الخارج يجلسُون على طاولاتٍ عليهَا كُؤوس خَمرٍ وأوراق شدَّة. وأنا أقفُ مشدُوهَة. إلى أينَ جئتُ؟ من الذي حَملني إلى هُنا ؟ أي ريحٍ ستقبلُ اليَومَ بتقبيل شَعري ؟
ظننتُ أنني ضعتُ، أنني سأبقى عالقَة في حيفَا معَ عائلَة يهُوديَّة. و سيتمُ تجنيدي وغسل دمَاغي لكي أقاتل في صُفوف العَدُّو .
ولأنني صُدمتُ مما رأيته ركضُت مُسرعَة لكي لا يخطفني أحدهُم. فوصلتُ البَحرَ وشرعتُ أبكي. كيفَ ساعُود الآن ؟ هل من طَريقٍ للعَودة ؟ أنا الآن ضائعَة فيكِ يا حيفا فأرشديني للطَريق .
تتبعتُ خيطَ الضُوء المُتخفي في صَدر السَماء. وصلتُ لحَمَّامات البَحر، ومنهَا مشيتُ للجامعِ الذّي صلينَا بهِ. وخرجتُ منهُ لأسيرَ في الطريقِ التي أخذناها للحَديقَة، وأنا أبكي وأمسحُ دمعي لكي لا يتقربَ مني يَهُودي ويسألني : هل ضللتِ الطريقَ ؟ تعالي معي سآخُذكِ للبَيتْ.
تتبعتُ الطريقَ الذي مشيتُه ووصلتُ للحديقَة بعدَ ذلك ودخلتُ الباب الأمامي ووجدتُ الجميع. كانَ عُمري يترنحُ حَول العاشرَة .
في القُدس مرَّة أخرى، يضيعُ أخي قبل ثماني سَنواتٍ. القُدس كَبيرَة ولها عدَّةُ أبوابُ ومُقسَّمَة لشرقيَّة وغربيَّة. ضاعَ أخي فجأة عندَما ذهب للحمَّام برفقة الأطفال. رُغم أن الحمام قريب ولكن الأغلَبَ أن أحد المناظر أعجبهُ فلحقَهُ وعادَ الأطفالُ جميعاً ولَمْ يعُد أخي. ذهبَ أخي وضاعَ في القُدس. بحثنَا كَثيراً عَنهُ ولم نجدهُ. ولكن الأملَ كان متشبتاً بأمي بقُوة ، فوجدناهُ مساءَ ذلك اليَوم يمشي خارجَ باب الأسباطِ وبقُربهِ سيارَةُ يهُود . ماذا كانَ سيحصُل لَوْ فقدناكِ يا أخي ؟ هل ستُجنَّد مثل خلدُون ؟ هل ستكرهنا عندَما تعرف بأن أهلكَ عربٌ ؟ هل كُنتَ ستأتي لتقتُلنا جميعاً في ليلةٍ ما لأن اليَهُود سرقُوكَ منَّا ؟
فتحت الروايَة باباً من الذكرياتِ لم يُغلقْ. فتحت حيفَا حُفرة خَوف عَميقَة ولم تنسدَّ.

عالجَ غسان كنفاني الروايَة يعُمق. فهُو قَدْ وصفُ الأماكنَ برويَّة وبدقَّة. وصف بُكاء صفيَة وضحك سعيدٍ وكذبتهُ البيضاْ الصغيرَة. لا شيء أكثر ، سُوى أنني أمرر أصابعي في الغُبار بحركَةٍ عشوائيَّةٍ وأكتُب تاريخَ النكبَة بالحُروف.
* مُلاحظَة : النصوص المُقتبسَة قَد تحرق أجزاءً مُهمة من الرواية .

" أي خلدون يا صفية ؟ أي خلدون ؟ أي لحم ودم تتحدثين عنهما ؟ وأنت تقولين أنه خيار عادل ! لقد علموه عشرين سنة كيف يكون . يوماً يوماً ، ساعة ساعة، مع الأكل والشرب والفراش .. ثم تقولين : خيار عادل ! ان خلدون ، أو دوف ، أو الشيطان إن شئت لا يعرفنا ! أتريدين رأيي ؟ لنخرج من هنا ولنعد إلى الماشي . انتهى الأمر . سرقوه . " ص 48
بكيتُ بعد قراءة هذه الجُملة كَثيراً. فأنا التي تُشبه صفيّضة في ضعفها لن يكُون بقدورها أن تحذف جُزءاً من الماضي لأنه سيء أو قبيح أو لأنه ملعُون أو مقلُوب !
" لا شيء لا شيء أبداً. كنت اتساءل فقط . افتش عن فلسطين الحقيقية. فلسطين التي هي أكثر من 1اكرة، أكثر من ريشة طاووس، أكثر من ولد، اكثر من خرابيش قلم رصاص على جدار السلم. " ص 73
" ليس ثمة ما يقال . بالنسبة لك ربما كان الأمر كله حدثا سيء الحظ، ولكن التاريخ ليس كذلك ، ونحن حين جئنا هناك كنا نعاكسه ، وكذلك ، اعترف لك ، حين تركنا حيفا ، الا ان ذلك كله شيء مؤقت . اتعرفين شيئاً يا سيدتي ؟ يبدو أن كل فلسطيني سيدفع ثمناً ، اعرف الكثيرين دفعوا ابناءهم ، وأعرف الآن أنني أنا الآخر دفعت ابناً بصورة غريبة، ولكنني دفعت ثمنه .. ذلك كان حصتي الأولى ، وهذا شيء يصعب شرحه . " ص75
ويبدُو أننا بالفعل سنبقى ندفع الثمن .

ليست هناك تعليقات: